أخذ يسير في شارعه المنسي بخطوات متثاقلة تفتقر إلى الرشاقة والاعتدال، قاصدا ذاك المكان نفسه. ترشقه عذارى الحي بقبلات سريه خاطفه من وراء الشبابيك العتيقة ألمرتفعه دون أن يدري. فهو رمز الإخلاص والعشق الأسطوري الذي تحكيه قصص الخيال.
خلسة يكنس الشارع بعينيه المتعبة ليتأكد أن لا عيون متطفلة ترصد حركاته ولا ألسنة تهمس في السر عن تصرفاته. ثم يواصل المسير في هدوء لا يشبه الهدوء، موحيا لمن يراه أن لا روح تسكن جسده الذي أنهكه الإسراف في العطاء. وأخيرا وصل إلى غايته وانتصب في المكان ذاته..حيث اعتاد أن يبعث لها الرسائل عن طريق القمر. تتسلل يده ذات الأصابع الموسيقية لتسحب من جيبه ورقه صغيره باليه هزمتها معالم القدم، كتب عليها..
"اذكرني كلما أخذ القمر مكانه في السماء لينير على البشرية..
اذكرني كلما أستبد الشوق وخفقت قلوب العذارى..
اذكرني كلما عادت الذكرى بقلبك إلى الماضي الجميل..
اذكرني لأن الحياة جميله... وأجمل منها الذكرى.."
يعيد تلك الورقة بحذر شديد إلى جيبه وكأنها نفيسة من نفائس الجنة قد سقطت عنوه إليه. تلك الورقة هي كنزه الوحيد الذي يعطيه قيمه لوجوده بعد أن فقد من كانت له الحياة. يتنهد بعمق وقد أغمض عيناه ووضع رأسه على كفيه دائمة العطاء، لتستريح أنفاسه وتتوقف عن ملاحقة بعضها البعض. بعدها يحدق في السماء الرحبة ليشاهد رحيل الشمس وخلافة القمر. فهو على موعد مع القمر لإعادة روحه التي تغادر كل صباح لتعود ليلا مع القمر.
ثم يتساءل في نفسه التي استبد بها الشوق...
إلى متى سيبقى عديم الروح، أسير الهاجس الجبار؟ قد سأم حديث الناس المتواصل عن جنونه وهذيانه. سأم شفقتهم ومحاولاتهم المتواصلة في إقحام أنفسهم في حياته. فهذا فؤاد يحدثه كلما التقاه عن ضرورة زيارة الطبيب النفساني لمساعدته. وهذه أخته تفتي بضرورة اختلاطه مع الناس والخروج من عزلته. وتلك أمه تصر على أهمية اقترانه بخديجة بنت عمه. ولكن كيف وهو لا يملك من نفسه شيئا؟ لقد زهد في النساء والمال بل بالدنيا بأسرها. ورضي أن يعطيها كل حياته، فبقي هكذا...جسد بلا روح...بل بذكرى. ذكرى تبقيه خارج عالم محمود العطار التاجر المفتري الذي يتفنن في النصب على خلق الـه. خارج عالم السيدة حكمة التي تنقصها كل الحكمة..فلا يوجد شخص واحد لم تصبه بأذية. خارج عالم صاحبه فؤاد الذي يحلم بالهجرة والزواج بغانيه شقراء تنسيه بنات بلده ذوات البشرة القمحية والشعور الخمرية. خارج عالم أخته التي تدعوا كل يوم أن ترزق بمليونير يشبه راغب علامة لينقذها من صنع "الملوج" والكد فوق "الطبون". بعيدا عن عالم سكانه قد تحولوا إلى خامات بشريه أستهلكها الكد والكفاح في سبيل لا شيء!
اكتفى بقليل من ذكراها المعطرة بأنفاسها وقليل من حروفها الخالدة التي ينيرها القمر...ذاك القمر الذي كان رسوله إليها في يوم من الأيام، قبل أن تنطلق إلى عالمها دون عوده.
ثم يتساءل مجددا..."لماذا يريدون مني أن ألحق بركبهم وأصبح مخلوقا لا ترحل عنه الروح كل صباح؟"
وفجأة بينما هو يتجول بين أفكاره المشوشة...ظهر القمر أخيرا، وابتسمت النجوم مرحبة بالعاشق المخلص. ثم اجتمعت لترسم وجهها الساحر في السماء. بعدها تسللت أنفاسها إلى جسده المتهالك، وتغلغلت في أوصاله الذكرى لتستقر في مخيلته الفارغة من كل شيء عدى ذكراها. وارتخت أضلاعه وأعصابه، ثم أسند رأسه المتعب على شيء لم يميزه وأطلق عيناه لتلاحق بصره الذي صار يرنو بين النجوم ويطوق القمر.
وابتسم.. ابتسم ابتسامة رضا نبعت من أعماقه المهشمة، قد مسحها الإنهاك وهو يتمتم:
"كم أنا محظوظ وكم هم أشقياء!"